لأهل القدس ميدانهم الخاص الذي لا ينازعهم فيه منافس، ومنهم يخرج المقاومون الذين لا يُشق لهم غبار، تتركهم السياسة الفلسطينية اللاهثة وراء التنسيق الأمني وراءها، وتتلقى صدورهم ضربات العدو الأول وحقد قلبه الأسود دون استسلام.
من بينهم خرج أسيرنا وابن جامعة القدس أبو ديس، محمود موسى عيسى، الذي يقضي اليوم حكماً في سجون الاحتلال لما يزيد عن الثلاث مؤبدات.
وإن كانت الأخبار تتناقل عادة عن عظمة الشهداء وروعتهم، ففي الأسر أبطال اصطفاهم الله لأكثر من الشهادة، وزرع في قلوبهم صبراً على المحنة وطهارةً روح عند اللقاء.
ولد الأسير المقدسي محمود موسى عيسى ببلدة عناتا شمال شرق مدينة القدس في أواخر مايو أيار من عام 1968 ، ليكون الفتى الأصغر بين ثلاث أولاد وخمس فتيات.
درس الإبتدائية والإعدادية في مدارس البلدة ثم انتقل إلى المدرسة الرشدية في القدس، حيث ساقه الله لمعرفة الحركة الطلابية الإسلامية هناك والتتلمذ على يدها، ومنه انتقل الالتزام والتدين إلى عائلته فارتدت أخواته الحجاب وأضحى الالتزام خط العائلة المميز وعنوانها.
بعد إتمامه للمرحلة الثانوية انتقل إلى جامعة القدس أبو ديس، وهناك انضم لصفوف الكتلة الإسلامية، ومنها تجاوز تخصص الصورة توالقلم في ميدان الإعلام الذي كان يدرسه وأصبح عضواً في كتائب القسام، وقد كان يعمل سابقاً مدير مكتب جريدة صوت الحق والحرية بالقدس التي كانت تصدر من أم الفحم.
في كتائب القسام عمل محمود على تأسيس أول فرقة خاصة في كتائب القسام سميت "الوحدة الخاصة 101" التي حملت على عاتقها تحريرلأسرى الفلسطينيين عن طريق أسر جنود صهاينة ومن ثم مقايضتهم بأسرى فلسطينيين، وكان من أبرز عملياتها الجهادية اختطاف الرقيب أول في جيش الاحتلال نسيم توليدانو قرب مدينة اللد المحتلّة بتاريخ 13-12-1992، وقتله بعد رفض الاحتلال إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين -مؤسّس حركة حماس- مقابل الإفراج عنه.
بعد انتهاء عملية الخطف توصل الاحتلال لدور محمود من خلال أعوانه وجواسيسه فاعتقله من منزله في بلدته عناتا شمال شرق مدينة القدس في 3-6-1993، ولم يتجاوز عمره آنذاك 25 سنة.
بعد اعتقاله قام الاحتلال بالتحقيق معه لما يزيد عن الشهرين في التحقيق العسكري في مركزي المسكوبية في القدس والرملة، لكنه رفض الاعتراف بأيٍّ من التهم الموجهة له، ونتيجة لذلك بدا في حالةٍ يُرثى لها من التعب والإرهاق في المحكمة حتى إن والدته لم تعرفه للوهلة الأولى، وقد حكم باعتراف الآخرين عليه، بالسجن المؤبد ثلاث مرات و40 عاماً.
ومنذ عام 1993 تعتبر قوات الاحتلال عيسى واحداً من أخطر ثمانية أسرى في سجونها خاصة بعد اتهامه عدة مرات بتجنيد خلايا خارج السجن، ومحاولته في العام 1996 الهروب من سجن عسقلان بحفر نفق أسفل السجن، وقد أعيد للتحقيق عدة مرات، وأضيف لحكمه ست سنوات أخرى، وعُزل لما يزيد عن الـ 15 عاماً، ولم يخرج من العزل إلى عام 2012 بعد إضراب الكرامة، ومنع من زيارة عائلته باستثناء والدته، التي لم تستطع زيارته سوى لخمس سنواتٍ فقط، بينما تواصلت عائلته معه عبر الصليب الأحمر.
ورغم هذا التنكيل إلا أن محمود عيسى استطاع حفظ القرآن كاملاً مع تجويده، وانكب على القراءة والكتابة، وأنتج ستة كتب فكرية وبحثية وروائية، كما أتقن رياضة الكاراتيه، وهو خطاط مشهودٌ له بمستواه المتقدم، ومتق كما أن الاحتلال حرمه من إكمال الدراسة في الجامعة العبرية بتخصص العلوم السياسية، أو من إكمال دراسته في جامعة القدس أبو ديس.
هذا الشهر سيكون محمود قد أمضى في أسره ما يزيد عن الـ 31 عامًا، ربما توقف منذ زمنٍ طويل عن عد السنوات، فوالداه قد توفيا منذ عقدٍ ويزيد وجيله قد مضت به الأيام، لكن محمود ما زال يقف عند العزيمة والإصرار والصمود نفسه، هو العدو ذاته في الأسر وخارجه، فأينما واجهته فقاتله، وحيثما صمدت فلا تنكسر فصمودك وحده..مقاومة.